تبرعات وعائدات عيد الميلاد.. جسر محبة رمضانية من نورنبيرغ لنابلس
من خلال مبادرة فريدة، تتحول مبيعات سوق عيد الميلاد والتبرعات في نونبيرغ الألمانية إلى دعم لمشاريع خيرية ووجبات إفطار للصائمين في نابلس برمضان. المبادرة ليست مجرد تبرعات، بل جسر يعزز الروابط، ويدعم الحرفيين والمزارعين.في قلب مدينة نابلس الفلسطينية، حيث تتشابك حاراتها وأزقتها الضيقة كخيوط تاريخ عريق، يتردد صدى أواني الطبخ وضحكات المتطوعين في "مطبخ مبرة الخير". التابع لجمعية المركز الاجتماعي الخيرية مع اقتراب غروب الشمس في رمضان، حيث تتحول هذه البقعة الصغيرة إلى منارة تضيء حياة المئات من المحتاجين بوجبات ساخنة تحمل في طياتها أكثر من مجرد طعام – تحمل الأمل. لكن خلف هذا المشهد المحلي، تمتد خيوط قصة عجيبة إلى مدينة نورنبيرغ الألمانية، حيث تمتزج رائحة الحلويات الشتوية وأنوار سوق عيد الميلاد. هذا التعاون الإنساني، ينسج حكاية تتجاوز الحدود، ليثبت أن الرحمة لا تعرف مسافات، وأن الأمل يمكن أن يولد من لقاء بين قلبين بعيدين.
تبدأ خيوط هذه القصة في ديسمبر من كل عام، عندما تتحول نورنبيرغ إلى مسرح احتفالي بوجود سوق عيد الميلاد الشهير والعريق. وسط الأضواء المتلألئة ورائحة الكعك المحلى بالقرفة، يبرز جناح مميز يحمل اسم نابلس، مزينًا بمنتجات يدوية فلسطينية تحكي قصصًا من تراث عريق: الصابون النابلسي المصنوع من زيت الزيتون، التطريز التقليدي الملون بخيوط الحياة، والتحف الخشبية التي تحمل بصمات أيادٍ صنعتها بعناية. لكن هذا الجناح ليس مجرد واجهة عرض، بل بوابة للتضامن؛ فجزء كبير من عائداته يتدفق مباشرة إلى مشاريع تضخ في مدينة نابلس ومنها مطبخ "مبرة الخير" ليصبح كل طبق يُقدم هناك تعبيرًا عن صداقة عابرة للقارات.
الدكتور بيتر بلُشكه، رئيس جمعية الصداقة بين المدينتين "INNA" والتي ترتبط جمعيته ببلدية نورنبيرغ بعلاقات وثيقة قال في حوار مع DW عربية. "إن التبرعات هي أكثر من مجرد دعم مالي، إنها رسالة محبة بين بلدين. وأوضح: كانت القوة الدافعة لتطوير التعاون بين نابلس ومدينة نورنبيرغ مجموعة من الأشخاص الذين ينحدرون من نابلس ويقيمون الآن في نورنبيرغ، ويرغبون في المساهمة في دعم مدينتهم الأم. لقد عملوا لفترة طويلة وبصبر كبير للترويج لهذه الفكرة. ومع مرور الوقت، انضم إليهم بعض مواطني نورنبيرغ، مما أدى في النهاية إلى تشكيل نواة لتأسيس الجمعية.
علاقة تاريخية تمتد لقرون
ويقول بلشكه: لم تكن هذه الشراكة وعلاقة التوأمة بين المدينتين وليدة اللحظة، بل تعود جذورها إلى قرون مضت. في عام 1605، حيث اكتشف المؤرخ فولفغانغ ماير في تقرير رحلة قديم أن هناك بالفعل اتصالات مبكرة بين علماء من نورنبيرغ ونابلس في الضفة الغربية، حيث وصف تقرير طُبع لأول مرة عام 1608، زيارة القس النورنبيرغي سالومون شفايفغر لنابلس أثناء رحلته من القدس إلى دمشق، حيث قضى ليلة تحت أشجار الجوز في المدينة. هذه الزيارة، التي وثقها في كتابه المنشور عام 1608، تعد من أوائل الروابط المسجلة بين المدينتين. واليوم، بعد أكثر من أربعة قرون، تستمر العلاقة ولكن بصيغة جديدة من التعاون الإنساني والاقتصادي.
اليوم، يستلهم الدكتور بلُشكه وفريقه من هذا التاريخ ليبنوا على أساسه: "عندما قرأنا عن رحلة شفايفغر، أدركنا أن هناك خيطًا رفيعًا يربطنا بنابلس منذ قرون"، يقول بلُشكه، مضيفًا: "ما نفعله اليوم هو إعادة إحياء تلك الصلة، لكن بطريقة تخدم الناس وتعزز حياتهم." هكذا، تحولت تلك اللحظة التاريخية إلى نقطة انطلاق لمبادرات معاصرة، تجمع بين الماضي والحاضر في نسيج واحد من التضامن.
دعم اقتصادي: من التبرعات إلى الاستدامة
عدنان عودة، أمين عام جمعية المركز الاجتماعي الخيرية المشرفة على "مطبخ مبرة الخير"، قال في حوار مع DW عربية أن الدعم الأخير ساهم في توزيع مئات الوجبات على الصائمين في رمضان في البلدة القديمة. وقال عودة إن مدينة نابلس تشتهر بأنها مدينة الأديان الثلاثة الإسلام والمسيحية والسامرية (اليهودية) لذلك فإن من أهداف الجمعية توزيع الطعام على جميع المحتاجين أو عابري السبيل بغض النظر عن دينهم وعرقهم، كما أن الجمعية تساهم من خلال التبرعات بدعم المزارعين الفلسطينيين بشراء منتوجاتهم بسعر عادل، وتعمل على تزويد مطبخها بأجود المزروعات واللحوم، كما أنها تساهم في ترويج البعض الآخر وتسوقه من خلال معارض الجمعية، كذلك تعمل على الاتفاق مع سيدات وربات بيوت من أجل المساهمة في تفريز الطعام أو صنع المخللات أو المكدوس والمربى من أجل توفير فرص عمل للسيدات وبيع هذه المنتوجات ضمن معرضها في المدينة، بحيث يعد شراء هذه المنتجات أيضا وسيلة لدعم أعمال الخير.
التعاون بين المدينتين لا يقتصر على إطعام المحتاجين في رمضان، بل يمتد إلى هدف أكبر: بناء اقتصاد محلي مستدام فينابلس. من خلال جناح سوق عيد الميلاد في مدينة نورنبيرغ الألمانية، يحصل الحرفيون والتجار الصغار الفلسطينيون على فرصة نادرة لبيع منتجاتهم مباشرة في السوق الأوروبية، بعيدًا عن الوسطاء الذين قد يستغلون ظروفهم الصعبة: "لا نريد أن نكتفي بتقديم مساعدات مؤقتة، بل نسعى لتمكينهم من الوقوف على أقدامهم"، يوضح بلُشكه، مشيرًا إلى أن هذا النهج يعكس رؤية طويلة الأمد.
تحديات بين الصراع والأمل
لكن هذا الجسر الإنساني لا يخلو من العوائق. الوضع السياسي والاقتصادي في نابلس، مع قيود التنقل الخانقة ونقاط التفتيش التي تعيق الحركة، يشكل تحديًا كبيرًا أمام استمرارية التعاون. في السابق، كانت الزيارات المتبادلة بين المدينتين حدثًا منتظمًا، حيث كان الوفود من نورنبيرغ يلتقون بشركائهم في نابلس، لكن الظروف الراهنة قلصت هذه اللقاءات، رغم ذلك، "نستخدم مؤتمرات الفيديو لنبقى على تواصل دائم مع شركائنا في نابلس"، يقول بلُشكه، مضيفًا: "في ظل هذه التحديات، تواصل الجمعية تقديم الدعم العملي، مثل مركبات الإطفاء ومعدات إدارة النفايات التي قدمتها بلدية نورنبيرغ سابقًا، كما تم دعم مدرسة في نابلس بآلات موسيقية وتجهيزات مدرسية. وقد تم تقديم طلب للحصول على تمويل فيدرالي عبر منظمة "Engagement Global/SKEW"، ولكن الأمور تبدو صعبة حاليًا. وبمجرد توفر الدعم المالي، نأمل في تقديم حاويات نفايات إضافية لدعم مدينة نابلس.
هكذا، يظل سوق عيد الميلاد في نورنبيرغ أكثر من مجرد احتفال موسمي؛ إنه جسر إنساني يربط بين قلوب الناس، ويد تمتد من أوروبا إلى فلسطين، تحمل معها الأمل والدعم لمن هم في أمسّ الحاجة إليه.
الكاتب: علاء جمعة